الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)
.تَنْبِيهٌ في كلام الصوفية في تفسير القرآن: قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوِيهِ: وَقَدْ وَجَدْتُ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ الْوَاحِدِيِّ أنه صَنَّفَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ حَقَائِقَ التَّفْسِيرِ فَإِنْ كَانَ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ تَفْسِيرٌ فَقَدْ كَفَرَ. قَالَ: وَأَنَا أَقُولُ: الظَّنُّ بِمَنْ يُوثَقُ بِهِ مِنْهُمْ إِذَا قَالَ شَيْئًا مِنْ أَمْثَالِ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ تَفْسِيرًا وَلَا ذَهَبَ بِهِ مَذْهَبَ الشَّرْحِ لِلْكَلِمَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانُوا قَدْ سَلَكُوا مَسْلَكَ الْبَاطِنِيَّةِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْهُمْ ذِكْرٌ لِنَظِيرِ مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ فَإِنَّ النَّظِيرَ يُذْكَرُ بِالنَّظِيرِ فَمِنْ ذَلِكَ مِثَالُ النَّفْسِ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَمَرَنَا بِقِتَالِ النَّفْسِ ومن يلينا من الكفار ومع ذلك فياليتهم لَمْ يَتَسَاهَلُوا فِي مِثْلِ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِبْهَامِ وَالِالْتِبَاسِ انْتَهَى. .فَصْلٌ: وَالْحَقُّ أَنَّ عِلْمَ التَّفْسِيرِ مِنْهُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى النَّقْلِ كَسَبَبِ النُّزُولِ وَالنَّسْخِ وتعيين المبهم وتبيين المجمل ومنه مالا يَتَوَقَّفُ وَيَكْفِي فِي تَحْصِيلِهِ التَّفَقُّهُ عَلَى الْوَجْهِ المعتبر. وَكَأَنَّ السَّبَبَ فِي اصْطِلَاحِ بَعْضِهِمْ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَنْقُولِ وَالْمُسْتَنْبَطِ لِيُحْمَلَ عَلَى الِاعْتِمَادِ فِي الْمَنْقُولِ وَعَلَى النَّظَرِ فِي الْمُسْتَنْبَطِ تَجْوِيزًا لَهُ وَازْدِيَادًا وَهَذَا مِنَ الْفُرُوعِ فِي الدِّينِ. .تَنْخِيلٌ لِمَا سَبَقَ: وَالْأَوَّلُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: إِمَّا أَنْ يَرِدَ التَّفْسِيرُ عَنِ النبي صلى الله عيه وَسَلَّمَ أَوْ عَنِ الصَّحَابَةِ أَوْ عَنْ رُؤُوسِ التابعين فالأول يبحث في عَنْ صِحَّةِ السَّنَدِ وَالثَّانِي يَنْظُرُ فِي تَفْسِيرِ الصَّحَابِيِّ فَإِنْ فَسَّرَهُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ فَهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ فَلَا شَكَّ فِي اعْتِمَادِهِمْ وَإِنْ فَسَّرَهُ بِمَا شَاهَدَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالْقَرَائِنِ فَلَا شَكَّ فِيهِ وَحِينَئِذٍ إِنْ تَعَارَضَتْ أَقْوَالُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ فَذَاكَ وَإِنْ تَعَذَّرَ قُدِّمَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَّرَهُ بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» وَقَدْ رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ قَوْلَ زَيْدٍ فِي الْفَرَائِضِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ» فَإِنْ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ جَازَ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَأْخُذَ بِأَيِّهَا شَاءَ وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُمْ رُؤُوسُ التَّابِعِينَ إِذَا لَمْ يَرْفَعُوهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا إِلَى أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَحَيْثُ جَازَ التَّقْلِيدُ فِيمَا سَبَقَ فَكَذَا هُنَا وَإِلَّا وَجَبَ الِاجْتِهَادُ. الثَّانِي: مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَقْلٌ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ قَلِيلٌ وَطَرِيقُ التَّوَصُّلِ إِلَى فَهْمِهِ النَّظَرُ إِلَى مُفْرَدَاتِ الْأَلْفَاظِ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ وَمَدْلُولَاتِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا بِحَسَبِ السِّيَاقِ وَهَذَا يَعْتَنِي بِهِ الرَّاغِبُ كَثِيرًا فِي كِتَابِ الْمُفْرَدَاتِ فَيَذْكُرُ قَيْدًا زَائِدًا عَلَى أَهْلِ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ لِأَنَّهُ اقْتَنَصَهُ مِنَ السِّيَاقِ. .فصل فيما يجب على المفسر البداءة به: قَالُوا: وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ فَقَطْ بَلْ هُوَ نَافِعٌ فِي كُلِّ عِلْمٍ مِنْ عُلُومِ الشَّرْعِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ كَمَا قَالُوا: إِنَّ الْمُرَكَّبَ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِمُفْرَدَاتِهِ لِأَنَّ الْجُزْءَ سَابِقٌ عَلَى الْكُلِّ فِي الْوُجُودِ مِنَ الذِّهْنِيِّ وَالْخَارِجِيِّ فَنَقُولُ النَّظَرُ فِي التَّفْسِيرِ هُوَ بِحَسَبِ أَفْرَادِ الْأَلْفَاظِ وَتَرَاكِيبِهَا. وَأَمَّا بِحَسَبِ الْأَفْرَادِ فَمِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: مِنْ جِهَةِ الْمَعَانِي الَّتِي وُضِعَتِ الْأَلْفَاظُ الْمُفْرَدَةُ بِإِزَائِهَا وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ اللُّغَةِ. وَمِنْ جِهَةِ الْهَيْئَاتِ وَالصِّيَغِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ وَهُوَ مِنْ عِلْمِ التَّصْرِيفِ. وَمِنْ جِهَةِ رَدِّ الْفُرُوعِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْأُصُولِ إِلَيْهَا وَهُوَ مِنْ عِلْمِ الِاشْتِقَاقِ. وَأَمَّا بِحَسَبِ التَّرْكِيبِ فَمِنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ: الْأَوَّلُ: بِاعْتِبَارِ كَيْفِيَّةِ التَّرَاكِيبِ بِحَسَبِ الْإِعْرَابِ وَمُقَابِلِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مُؤَدِّيَةٌ أَصْلَ الْمَعْنَى وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمُرَكَّبُ بِحَسَبِ الْوَضْعِ وَذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِعِلْمِ النَّحْوِ. الثَّانِي: بِاعْتِبَارِ كَيْفِيَّةِ التَّرْكِيبِ مِنْ جِهَةِ إِفَادَتِهِ مَعْنَى الْمَعْنَى أَعْنِي لَازِمُ أَصْلِ الْمَعْنَى الَّذِي يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مُقْتَضَى الْحَالِ فِي تَرَاكِيبَ الْبُلَغَاءِ وَهُوَ الَّذِي يَتَكَلَّفُ بِإِبْرَازِ مَحَاسِنِهِ عِلْمُ الْمَعَانِي. الثَّالِثُ: بِاعْتِبَارِ طُرُقِ تَأْدِيَةِ الْمَقْصُودِ بِحَسَبِ وُضُوحِ الدَّلَالَةِ وَحَقَائِقِهَا وَمَرَاتِبِهَا وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَالِاسْتِعَارَةِ وَالْكِنَايَةِ وَالتَّشْبِيهِ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ الْبَيَانِ. وَالرَّابِعُ: بِاعْتِبَارِ الْفَصَاحَةِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ وَالِاسْتِحْسَانِ وَمُقَابِلِهِ وهو يتعلق بعلم البديع. مسألة في أن الإعجاز يكون في اللفظ والمعنى والملاءمة. وَقَدْ سَبَقَ لَنَا فِي بَابِ الْإِعْجَازِ أَنَّ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى تَفَرُّدِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَتَرَكَّبُ مِنْهَا الْكَلَامُ مَعَ مَا تَضْمَنُهُ مِنَ الْمَعَانِي مَعَ مُلَاءَمَتِهِ الَّتِي هِيَ نُظُومُ تَأْلِيفِهِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْأَلْفَاظِ فَهُوَ أَمْرٌ نَقْلِيٌّ يُؤْخَذُ عَنْ أَرْبَابِ التَّفْسِيرِ وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَأُ قوله تعالى: {فاكهة وأبا} فَلَا يَعْرِفُهُ فَيُرَاجِعُ نَفْسَهُ وَيَقُولُ: مَا الْأَبُّ وَيَقُولُ: إِنَّ هَذَا مِنْكَ تَكَلُّفٌ وَكَانَ ابْنُ عباس- وهو ترجمان القرآن- يقول: لا أعرف {حنانا} ولا {غسلين} ولا {الرقيم}. وَأَمَّا الْمَعَانِي الَّتِي تَحْتَمِلُهَا الْأَلْفَاظُ فَالْأَمْرُ فِي مُعَانَاتِهَا أَشَدُّ لِأَنَّهَا نَتَائِجُ الْعُقُولِ. وَأَمَّا رُسُومُ النَّظْمِ فَالْحَاجَةُ إِلَى الثَّقَافَةِ وَالْحِذْقِ فِيهَا أَكْثَرُ لِأَنَّهَا لِجَامُ الْأَلْفَاظِ وَزِمَامُ الْمَعَانِي وَبِهِ يَتَّصِلُ أَجْزَاءُ الْكَلَامِ وَيَتَّسِمُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فَتَقُومُ لَهُ صُورَةٌ فِي النَّفْسِ يَتَشَكَّلُ بِهَا الْبَيَانُ فَلَيْسَ الْمُفْرِدُ بِذَرَبِ اللِّسَانِ وَطَلَاقَتِهِ كَافِيًا لِهَذَا الشَّأْنِ ولا كل من أوتي خطاب بديهة ناهضة بِحَمْلِهِ مَا لَمْ يَجْمَعْ إِلَيْهَا سَائِرَ الشُّرُوطِ. .مسألة في أن أحسن طرق التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن: .مسألة فيما يجب على المفسر من التحوط في التفسير: وَمِنْ شَوَاهِدِ الْإِعْرَابِ قَوْلُهُ تعالى: {فتلقى آدم من ربه كلمات} وَلَوْلَا الْإِعْرَابُ لَمَا عُرِفَ الْفَاعِلُ مِنَ الْمَفْعُولِ بِهِ. وَمِنْ شَوَاهِدِ النَّظْمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّائِي لم يحضن} فَإِنَّهَا مُنْتَظِمَةٌ مَعَ مَا قَبْلَهَا مُنْقَطِعَةٌ عَمَّا بعدها. وَقَدْ يَظْهَرُ الِارْتِبَاطُ وَقَدْ يُشْكَلُ أَمْرُهُ فَمِنَ الظاهر قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثم يعيده} وَوَجْهُ ظُهُورِهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ مِنْ وَاحِدٍ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {قُلِ اللَّهُ} جَوَابَ سُؤَالٍ كَأَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوا سَمِعُوا مَا قَبْلَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ: {مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أَجَابَهُمْ بِقَوْلِهِ: {قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} فَتَرَكَ ذِكْرَ السُّؤَالِ. وَنَظِيرُهُ: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الحق قل الله يهدي للحق}. .مَسْأَلَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْ ذِكْرِ لَفْظِ الْحِكَايَةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَوُجُوبِ تَجَنُّبِ إِطْلَاقِ الزَّائِدِ عَلَى بَعْضِ الْحُرُوفِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ: قَالَ الْإِمَامُ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُرْشِدِ: قَالَ مُعْظَمُ أَئِمَّتِنَا: لَا يُقَالُ كَلَامُ اللَّهِ يُحْكَى وَلَا يُقَالُ حَكَى اللَّهُ لأن الحكاية الإتيان بمثل الشيء وليس لكلامه مِثْلٌ وَتَسَاهَلَ قَوْمٌ فَأَطْلَقُوا لَفْظَ الْحِكَايَةِ بِمَعْنَى الْإِخْبَارِ وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي كَلَامِهِمْ إِطْلَاقُ الزائد على بعض الحروف كما في نحو: {فبما رحمة من الله} والكاف في نحو: {ليس كمثله شيء} وَنَحْوِهِ. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ تَجَنُّبُ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْقُرْآنِ إِذِ الزَّائِدُ مَا لَا مَعْنَى لَهُ وَكَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ. وَمِمَّنْ نص على منع ذلك في الْمُتَقَدِّمِينَ الْإِمَامُ دَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ فَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الدَّاوُدِيُّ فِي الْكِتَابِ الْمُرْشِدِ لَهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ وَرَوَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَيْسَ في القرآن صلة بوجه وذكر أبو مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا مِثْلَ ذَلِكَ وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ خِلَافُ هَذَا ثُمَّ حَكَى عَنْ أَبِي دَاوُدَ مِثْلَهُ يَزْعُمُ الصِّلَةَ فِيهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} وقال: إن ما ها هنا لِلتَّعْلِيلِ مِثْلُ: أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا. .فَصْلٌ في تقسم التأويل إلى منقاد ومستكره: فَالْأَوَّلُ: مَا لَا تَعْرِضُ فِيهِ بَشَاعَةٌ أَوِ اسْتِقْبَاحٌ وَقَدْ يقع فيه الخلاف بين الأئمة: إما الاشتراك في اللفظ نحو: {لا تدركه الأبصار} هَلْ هُوَ مِنْ بَصَرِ الْعَيْنِ أَوِ الْقَلْبِ. وَإِمَّا لِأَمْرٍ رَاجِعٍ إِلَى النَّظْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إلا الذين تابوا} هَلْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَعْطُوفِ وَحْدَهُ أَوْ عَائِدٌ إِلَى الْجَمِيعِ؟ وَإِمَّا لِغُمُوضِ الْمَعْنَى وَوَجَازَةِ النَّظْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فإن الله سميع عليم} وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمُسْتَكْرَهُ فَمَا يُسْتَبْشَعُ إِذَا عُرِضَ عَلَى الْحُجَّةِ وَذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ لَفْظًا عَامًّا فَيَخْتَصُّ ببعض ما يدخل تحته كقوله: {وصالح المؤمنين} فَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَطْ. وَالثَّانِي: أَنْ يُلَفَّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ كَقَوْلِ مَنْ زَعَمَ تَكْلِيفَ الْحَيَوَانَاتِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ من أمة إلا خلا فيها نذير} مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أمثالكم} إنهم مكلفون كما نحن. الثالث: مَا اسْتُعِيرَ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عن ساق} فِي حَمْلِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ. الرَّابِعُ: مَا أُشْعِرَ بِاشْتِقَاقٍ بَعِيدٍ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْبَاطِنِيَّةِ فِي الْبَقَرَةِ: إِنَّهُ إِنْسَانٌ يَبْقُرُ عَنْ أَسْرَارِ الْعُلُومِ وَفِي الْهُدْهُدِ إِنَّهُ إِنْسَانٌ مَوْصُوفٌ بِجَوْدَةِ الْبَحْثِ والتنقيب. والأول أكثر ما يروج على المتفقه الذي لَمْ يَتَبَحَّرُوا فِي مَعْرِفَةِ الْأُصُولِ وَالثَّانِي عَلَى الْمُتَكَلِّمِ الْقَاصِرِ فِي مَعْرِفَةِ شَرَائِطِ النَّظْمِ وَالثَّالِثُ عَلَى صَاحِبِ الْحَدِيثِ الَّذِي لَمْ يَتَهَذَّبْ فِي شَرَائِطِ قَبُولِ الْأَخْبَارِ وَالرَّابِعُ عَلَى الْأَدِيبِ الَّذِي لم يتهذب بشرائط الاستعارات والاشتقاقات.
|